کد مطلب:18080 شنبه 1 فروردين 1394 آمار بازدید:318
مقدمة المرکز
الحمد للّه رب العالمین، و الصلاة و السلام علی أشرف الأنبیاء و المرسلین، و آله الطیّبین الطاهرین.. و بعد:
إنّ من أكثر الاُمور وضوحاً فی حیاة الشعوب و الأمم، اتفاقها علی جملة من المبادئ الإنسانیة لا سیماذات الصلة المباشرة بحقوق الناس، و الحفاظ علی توازن المجتمع إزاء التحولات الحتمیة فی مستقبل تاریخه، بصیرورة تلك المبادئ إلی سلوك معتاد بعد تحقق الاستجابة الطوعیة لها، و التحرك علی ضوئها، حیث لم تترك معلقة فی الفضاء، و إنما اُنزِلت إلی أرض الواقع، و عاشتها البشریة كحقیقة ثابتة جیلاً بعد جیل، حیث تناغت اصولها مع الفطرة، و انسجمت أهدافها مع رغبة الإنسان و طموحه و تطلعاته.
و لعل من أبرز تلك المبادئ التی تحولت إلی سلوك دائم فی حیاة الناس جمیعاً هو مبدأ الوصیّة الذی كُتب له الخلود، و هكذا كل مبدء لا تعرف قیمته ما لم یكن سلوكاً، فارتكاز الوصیة فی ضمیر الإنسان و شعوره، و انسجامها مع رغبة الإنسان فی أبقاء نوع علاقة له مع الحیاة القائمة بعد مغادرتها، هی رغبة فطریة یتساوی فیها السید و المسود؛
كل ذلك أدّی إلی انعكاس شعور الإنسان بالحاجة إلی الوصیة علی تنظیم شؤون حیاته, و استباق الموت باختیار الرجل الكفوء الذی یمكن أن تُسند إلیه المهام التی لم یسمح عمر الموصی بمباشرتها بنفسه.
و لدور الوصیة العظیم فی حفظ الحقوق و توازن المجتمع، بادرت الشریعة الغراء الیتنظیمها تنظیماً واعیاً و دقیقاً، و بهذا لم تعد الوصیة حاجة من حاجات الإنسان الضروریة فحسب، بل مطلباً إسلامیاً أكیداً، لابدّ من توخی الدقة فیه، واتخاذ السبل اللازمة لا نجاره.
و تبرز حیویة الوصیة بإكسابها الموصی نفسه حیاة معنویة بعد وفاته، بابقاء رأیه ساریاً بحیث یمكن استنطاقه كلّما دعت الحاجة إلیه، و یُعرف ثقلها من متعلقها، و هو عادة ما یكون فی تناسب طردی مع شخص الموصی و موقعه، فالفلاح مثلاً یوصی فی أرضه، و التاجر فی تجارته، و الرجل الثری فی أمواله، و الملك فی مملكته، بل كل راع فی رعیته، و هكذا تخرج الوصیة عن الأفق الضیق الذی تعیشه أغلب الوصا یا كلما كان موقع الموصی خطیراً و من خلال هذا المقیاس یمكن تقریب صورة الوصی أیضاً؛ لأن عهد المصلح العظیم لاَخر فی تنفیذ مشاریعه الكبری بعد وفاته كافٍ فی تصور حجم الثقة المتبادلة بینهما، و الجزم بأنها لم تكن ولیدة فی ساعات احتضار المصلح؛ إذ لابدّ
[ صفحه 6]
و أن تكون عن مباشرة و معاشرة و خبرة طویلة اطلع علیها ذلك العظیم الراحل علی قدرات وصیه التی استوعبت جهات مشاریعه الكبری كلها، مع وعیه الكامل بطبیعة تلك المشاریع و أهدافها.
و لما كانت مسؤولیات الأنبیاء علیهم السلام من أجلّ المسؤولیات و أخطرها علی الإطلاق، بحیث لا یمكن تأهیل أیّ إنسان بالمقاییس البشریة كلّها إلی احتلال مركز النبوّة؛ لحصره بالاختیار الإلهی للصفوة من عباده. لذا صار القول بأن وصایا الأنبیاء علیهم السلام كانت عادیة أو أخلاقیة لا غیر، كالقول بتنصّلهم علیهم السلام عن رسالاتهم و تركهم اُممهم هملاً كالسوائم! و هو كما تری.. لا یقوله من عرف دور الأنبیاء و أدرك خطورة موقعهم و ثقل وجودهم فی حیاة الراجح علی ثقل كل شیء فیها. ناهیك عن سیدهم و أشرفهم و القیمة الكبری فی هذا الوجود نبینا محمّد صلیَّ الله علیه و آله، فهل یعقل مع هذا أن تكون وصیته صلیَّ الله علیه و آله عادیة؟!
ألیس معنی هذا اتهامهُ صلَّی الله علیه و آله با همال توازن المجتمع الإنسانی برمته فی حین أنه اُرسل لانقاذه؟
و اتهامه صلَّی الله علیه و آله كذلك بعدم الحرص علی مستقبل رسالته!! إذ لم یعمل علی ترسیخ قناعات المؤمنین برسالته علی منح الثقة للقیادة الرسالیة الآتیة بعده لتتمكّن بدورها من الحفاظ علی القواعد الرسالیة التی تنظم دور المجتمع فی حركة أفراده تجاه الدین الفتی، مع الوعی الكامل بأهداف الرسالة و عایاتها.
ثم كیف یكون ذلك، ولیس فی تاریخ الأنبیاء علیهم السلام نبی لم یوصِِ إلی وصی معین لیقوم مقامه فی حمل الأمانة و أدائها للناس نقیة ناصعة؟ و فی تاریخنا الإسلامی ما یدل بوضوح علی أن وصیة كل نبی سابق لیست كلمة مجردة عن محتواها، و انما هی موقف ورسالة، و علی الأتباع و عیها و التزامها و تحمّل المسؤولیة فی ایجاد الأرضیة الصالحة لتطبیقها لا منعها أو تحریفها.
و مع التدرّج فی خطورة وصایا الأنبیاء علیهم السلام كلّ من موقعه، نصل بالنتیجة إلی أعظمها و أخطرها فی وصیة نبینا صلَّی الله علیه و آله باعتبار موقعه بینهم علیهم السلام و منزلة رسالته بین رسالاتهم، مع علمه صلَّی الله علیه و آله بأن الأنبیاء الذین رحلوا إلی اللّه قبله لم ینقطع خبر السماء بموتهم، ولا النبوة بمغادرتهم، فی حین كان رحیله صلَّی الله علیه و آله اُفولاً لشمس النبوة، ووفاة لجمیع الأنبیاء، و انقطاعاً لنزول الوحی بخبرالسماء. و لا شكّ أنه یعلم بكل هذا كما
[ صفحه 7]
یعلم بأن الذی أرسله بالهدی و دین الحق لم یقل له انك ستبقی إلی یوم یُبعثون، و إنما قال له: (إنك میّت و إنّهم میتون).
فعلام لا یكون النبی الخاتم إذن من أكثر الأنبیاء حرصاً علی بیان مركز القیادة ـ فی وصیته ـ من بعده؟
إن ابتداء دور الخلافة بعد وفاة الرسول صلَّی الله علیه و آله مباشرة، و انطلاق وصیة النبی صلَّی الله علیه و آله من النقطة التی تمثل انتهاء مرحلة النبوة فی التاریخ لا یساعد علی تصور اغفال عقل الكون كله للدور الجدید الآتی بعده، الأمر الذی یؤكد اعطاء وصیته صلَّی الله علیه و آله خصوصیة زائدة تختلف عن جمیع وصایا الأنبیاء السابقین علیهم السلام.
و نظرة أمینة لا خائنة فی فكر أهل البیت علیهم السلام ـ باعتبارهم المعنیین بوصیة النبی صلَّی الله علیه و آله دون غیرهم ـ كافیة لكشف الحقیقة لمن أرادها فی عدم تنازل هذا الفكر النقی عن الوصیة، و لا التخلّی عن حمایتها، أو الاستهانة بمركزها؛ إذ تبنّی مسؤولیة الدفاع عنها و الدعوة إلیها، و تأكید ثقلها فی حاضر الأمة و مستقلبها، كل هذا مع فسح المجال للتفكیر بجدیة معطیاتها، و دراسة أسبابها و تاریخها، و كیف صُمّت الآذان یوم الدار عن سماعها، و كیف منع النبی فی رزیة یوم الخمیس من كتابتها!
أمن الغرابة إذن لو انتفضت مُثُل الإسلام و قیمه العلیا؛ لتحمی تلك الوصیة ممّا لحقها ـ فی تاریخها ـ من صدٍّ، و لقلقة، و منع، و تشویه، و تزویر، و تحرسها بأشدِّ ما یكون وفاءً للنبی صلَّی الله علیه و آله، و تعبیراً عن الالتزام بخط الوصی علیّ علیه السلام؟
و أمّا القول بفوات أوان الحدیث عن تلك الوصیة؛ إذ قد مضی التاریخ بكل ما فیه علیها، و لم یعد بالإمكان إعادتها إلی واقع الحیاة، ولا إعطاء صاحب الوصیة حقّه و هو فی جوار ربّه. و انها قضیة قد انتهت، ولا معنی لاثارتها من جدید بماتتركه حساسیتها من تأثیرات سلبیة علی واقع المسلمین!! فهو خطأ عظیم؛ لأن بحث الوصیة لا یعنی حصرها بإطارها التاریخی، بل المقصود تعمیمها إلی حیاتنا العملیة؛ لأن ارتباطنا بالوصی هو ارتباطنا بالموصی، و القرآن لم یؤقت زمناً للارتباط بالنبی صلَّی الله علیه و آله و إنما أمر بالتمسّك به فی كل آنٍ و زمان، و من ثَمَّ فإن تمسّكنا بالوصی لا یعنی تمسكنا بالفترة التی عاشها الوصی، بل یعنی ذلك تمسكنا بخط الوصی الذی لا یحده زمان دون آخر، حیث اقتحم القرون و تجاوز العصور حتی صار مقیاساً للصحیح من العقیدة، و أضحت
[ صفحه 8]
العقائد الإسلامیة برمتها مضطرة الیترسّم فكره و روحه باعتبار أنه فكر الإسلام و روحه.
و إذ كان علی المسیرة الإسلامیة المعاصرة بكل فصائلها أن تستمد مقوماتها الأساسیة من فكر الإسلام و مبادئه، فكیف یمكنها أن تضبط مواقع خطواتها فی مسرح الحیاة، و هی لم تعرف بعدُ قیمة وصیة النبی صلَّی الله علیه و آله؟
إن الجهل بأهمیتها و ضرورتها فی تلك المسیرة، نذیر بالابتعاد الكلی عن الخط الرسالی الواضح الذی أراده النبی صلَّی الله علیه و آله لأمته فی وصیته.
و أمّا منعها أو تجمیدها تمهیداً الیإلغائها من الفكر الدینی و التطبیق الواقعی بحجة فوات أوانها! فإنما هو دعوة إلی إلغاء دور الدین من الواقع الحیاة، أو شلّ حركته و تعطیله من أن یأخذ مداه الرحب فی حركة الواقع، وموقعه الكبیر فی صلب المسیرة الإسلامیة المعاصرة. و علی العكس تكون المحافظة علیها باستمرار وجودها محافظة علی الدین فكراً و شریعة و عقیدة، و إحیاءً للحق، و إعلاناً بالتزامه كمنهجٍٍ فی الحیاة؛ باعتبار كون الوصیة المعبّر الواقعی عن قوة الرسالة فاعلیتها فی رسم معالم الطریق. الأمر الذی یتطلب اعادة النظر فی تقییم تلك المسیرة و تشخیص أخطائها باكتشاف نوع العلاقة القائمة بین تأثیرات العهدین الجاهلی و الإسلامی الأول فی عدم فسحهما المجال أمام وصیة النبی صلَّی الله علیه و آله، لتأخذ دور ها كما ینبغی، و تقف الأمة علی منابع خیرها، و تعرف مطالع نورها فی حاضرها و مستقبلها، و حینئذٍ ستُدرَك قیمة الأسالیب التی استخدمها أهل البیت علیهم السلام و من سار بركبهم من الجیل الطلائعی الأول فی كیفیة المقاومة لألوان التحدّی التی جابهتها وصیة النبی فی میدان الصراع السیاسی بعد وفاة الرسول صلَّی الله علیه و آله.
و كتاب «وصیة النبی صلَّی الله علیه و آله» علی صغر حجمه استطاع أن یضع الوصیة فی مكانها الفسیح من الفكر الدینی، مسلّطاً الضوء علی تاریخها، متتبعاً جذورها وحیثیاتها فی العهد النبوی الشریف، و ما جری مجراها علی لسان النبی صلَّی الله علیه و آله فی تأكید و حصر الأمر بعلیّ علیه السلام دون سواه، مع العنایة فی وسائل إثبات اُفقها السیاسی، و محاولات الالتفاف حولها أو التشكیك فی مضمونها و جدواها، ونحو ذلك مما مرّ علیها و لها، حتی جاء بالحقیقة الكاملة ـ لمن أراد معرفتها ـ من القرآن، والحدیث، و السیرة، و التاریخ، و الأدب. آملین أن یؤدّی دوره المطلوب فی وعی الأمة.
و اللّه الهادی الی سواء السبیل. مركز الرسالة
[ صفحه 9]
إنّ من أكثر الاُمور وضوحاً فی حیاة الشعوب و الأمم، اتفاقها علی جملة من المبادئ الإنسانیة لا سیماذات الصلة المباشرة بحقوق الناس، و الحفاظ علی توازن المجتمع إزاء التحولات الحتمیة فی مستقبل تاریخه، بصیرورة تلك المبادئ إلی سلوك معتاد بعد تحقق الاستجابة الطوعیة لها، و التحرك علی ضوئها، حیث لم تترك معلقة فی الفضاء، و إنما اُنزِلت إلی أرض الواقع، و عاشتها البشریة كحقیقة ثابتة جیلاً بعد جیل، حیث تناغت اصولها مع الفطرة، و انسجمت أهدافها مع رغبة الإنسان و طموحه و تطلعاته.
و لعل من أبرز تلك المبادئ التی تحولت إلی سلوك دائم فی حیاة الناس جمیعاً هو مبدأ الوصیّة الذی كُتب له الخلود، و هكذا كل مبدء لا تعرف قیمته ما لم یكن سلوكاً، فارتكاز الوصیة فی ضمیر الإنسان و شعوره، و انسجامها مع رغبة الإنسان فی أبقاء نوع علاقة له مع الحیاة القائمة بعد مغادرتها، هی رغبة فطریة یتساوی فیها السید و المسود؛
كل ذلك أدّی إلی انعكاس شعور الإنسان بالحاجة إلی الوصیة علی تنظیم شؤون حیاته, و استباق الموت باختیار الرجل الكفوء الذی یمكن أن تُسند إلیه المهام التی لم یسمح عمر الموصی بمباشرتها بنفسه.
و لدور الوصیة العظیم فی حفظ الحقوق و توازن المجتمع، بادرت الشریعة الغراء الیتنظیمها تنظیماً واعیاً و دقیقاً، و بهذا لم تعد الوصیة حاجة من حاجات الإنسان الضروریة فحسب، بل مطلباً إسلامیاً أكیداً، لابدّ من توخی الدقة فیه، واتخاذ السبل اللازمة لا نجاره.
و تبرز حیویة الوصیة بإكسابها الموصی نفسه حیاة معنویة بعد وفاته، بابقاء رأیه ساریاً بحیث یمكن استنطاقه كلّما دعت الحاجة إلیه، و یُعرف ثقلها من متعلقها، و هو عادة ما یكون فی تناسب طردی مع شخص الموصی و موقعه، فالفلاح مثلاً یوصی فی أرضه، و التاجر فی تجارته، و الرجل الثری فی أمواله، و الملك فی مملكته، بل كل راع فی رعیته، و هكذا تخرج الوصیة عن الأفق الضیق الذی تعیشه أغلب الوصا یا كلما كان موقع الموصی خطیراً و من خلال هذا المقیاس یمكن تقریب صورة الوصی أیضاً؛ لأن عهد المصلح العظیم لاَخر فی تنفیذ مشاریعه الكبری بعد وفاته كافٍ فی تصور حجم الثقة المتبادلة بینهما، و الجزم بأنها لم تكن ولیدة فی ساعات احتضار المصلح؛ إذ لابدّ
[ صفحه 6]
و أن تكون عن مباشرة و معاشرة و خبرة طویلة اطلع علیها ذلك العظیم الراحل علی قدرات وصیه التی استوعبت جهات مشاریعه الكبری كلها، مع وعیه الكامل بطبیعة تلك المشاریع و أهدافها.
و لما كانت مسؤولیات الأنبیاء علیهم السلام من أجلّ المسؤولیات و أخطرها علی الإطلاق، بحیث لا یمكن تأهیل أیّ إنسان بالمقاییس البشریة كلّها إلی احتلال مركز النبوّة؛ لحصره بالاختیار الإلهی للصفوة من عباده. لذا صار القول بأن وصایا الأنبیاء علیهم السلام كانت عادیة أو أخلاقیة لا غیر، كالقول بتنصّلهم علیهم السلام عن رسالاتهم و تركهم اُممهم هملاً كالسوائم! و هو كما تری.. لا یقوله من عرف دور الأنبیاء و أدرك خطورة موقعهم و ثقل وجودهم فی حیاة الراجح علی ثقل كل شیء فیها. ناهیك عن سیدهم و أشرفهم و القیمة الكبری فی هذا الوجود نبینا محمّد صلیَّ الله علیه و آله، فهل یعقل مع هذا أن تكون وصیته صلیَّ الله علیه و آله عادیة؟!
ألیس معنی هذا اتهامهُ صلَّی الله علیه و آله با همال توازن المجتمع الإنسانی برمته فی حین أنه اُرسل لانقاذه؟
و اتهامه صلَّی الله علیه و آله كذلك بعدم الحرص علی مستقبل رسالته!! إذ لم یعمل علی ترسیخ قناعات المؤمنین برسالته علی منح الثقة للقیادة الرسالیة الآتیة بعده لتتمكّن بدورها من الحفاظ علی القواعد الرسالیة التی تنظم دور المجتمع فی حركة أفراده تجاه الدین الفتی، مع الوعی الكامل بأهداف الرسالة و عایاتها.
ثم كیف یكون ذلك، ولیس فی تاریخ الأنبیاء علیهم السلام نبی لم یوصِِ إلی وصی معین لیقوم مقامه فی حمل الأمانة و أدائها للناس نقیة ناصعة؟ و فی تاریخنا الإسلامی ما یدل بوضوح علی أن وصیة كل نبی سابق لیست كلمة مجردة عن محتواها، و انما هی موقف ورسالة، و علی الأتباع و عیها و التزامها و تحمّل المسؤولیة فی ایجاد الأرضیة الصالحة لتطبیقها لا منعها أو تحریفها.
و مع التدرّج فی خطورة وصایا الأنبیاء علیهم السلام كلّ من موقعه، نصل بالنتیجة إلی أعظمها و أخطرها فی وصیة نبینا صلَّی الله علیه و آله باعتبار موقعه بینهم علیهم السلام و منزلة رسالته بین رسالاتهم، مع علمه صلَّی الله علیه و آله بأن الأنبیاء الذین رحلوا إلی اللّه قبله لم ینقطع خبر السماء بموتهم، ولا النبوة بمغادرتهم، فی حین كان رحیله صلَّی الله علیه و آله اُفولاً لشمس النبوة، ووفاة لجمیع الأنبیاء، و انقطاعاً لنزول الوحی بخبرالسماء. و لا شكّ أنه یعلم بكل هذا كما
[ صفحه 7]
یعلم بأن الذی أرسله بالهدی و دین الحق لم یقل له انك ستبقی إلی یوم یُبعثون، و إنما قال له: (إنك میّت و إنّهم میتون).
فعلام لا یكون النبی الخاتم إذن من أكثر الأنبیاء حرصاً علی بیان مركز القیادة ـ فی وصیته ـ من بعده؟
إن ابتداء دور الخلافة بعد وفاة الرسول صلَّی الله علیه و آله مباشرة، و انطلاق وصیة النبی صلَّی الله علیه و آله من النقطة التی تمثل انتهاء مرحلة النبوة فی التاریخ لا یساعد علی تصور اغفال عقل الكون كله للدور الجدید الآتی بعده، الأمر الذی یؤكد اعطاء وصیته صلَّی الله علیه و آله خصوصیة زائدة تختلف عن جمیع وصایا الأنبیاء السابقین علیهم السلام.
و نظرة أمینة لا خائنة فی فكر أهل البیت علیهم السلام ـ باعتبارهم المعنیین بوصیة النبی صلَّی الله علیه و آله دون غیرهم ـ كافیة لكشف الحقیقة لمن أرادها فی عدم تنازل هذا الفكر النقی عن الوصیة، و لا التخلّی عن حمایتها، أو الاستهانة بمركزها؛ إذ تبنّی مسؤولیة الدفاع عنها و الدعوة إلیها، و تأكید ثقلها فی حاضر الأمة و مستقلبها، كل هذا مع فسح المجال للتفكیر بجدیة معطیاتها، و دراسة أسبابها و تاریخها، و كیف صُمّت الآذان یوم الدار عن سماعها، و كیف منع النبی فی رزیة یوم الخمیس من كتابتها!
أمن الغرابة إذن لو انتفضت مُثُل الإسلام و قیمه العلیا؛ لتحمی تلك الوصیة ممّا لحقها ـ فی تاریخها ـ من صدٍّ، و لقلقة، و منع، و تشویه، و تزویر، و تحرسها بأشدِّ ما یكون وفاءً للنبی صلَّی الله علیه و آله، و تعبیراً عن الالتزام بخط الوصی علیّ علیه السلام؟
و أمّا القول بفوات أوان الحدیث عن تلك الوصیة؛ إذ قد مضی التاریخ بكل ما فیه علیها، و لم یعد بالإمكان إعادتها إلی واقع الحیاة، ولا إعطاء صاحب الوصیة حقّه و هو فی جوار ربّه. و انها قضیة قد انتهت، ولا معنی لاثارتها من جدید بماتتركه حساسیتها من تأثیرات سلبیة علی واقع المسلمین!! فهو خطأ عظیم؛ لأن بحث الوصیة لا یعنی حصرها بإطارها التاریخی، بل المقصود تعمیمها إلی حیاتنا العملیة؛ لأن ارتباطنا بالوصی هو ارتباطنا بالموصی، و القرآن لم یؤقت زمناً للارتباط بالنبی صلَّی الله علیه و آله و إنما أمر بالتمسّك به فی كل آنٍ و زمان، و من ثَمَّ فإن تمسّكنا بالوصی لا یعنی تمسكنا بالفترة التی عاشها الوصی، بل یعنی ذلك تمسكنا بخط الوصی الذی لا یحده زمان دون آخر، حیث اقتحم القرون و تجاوز العصور حتی صار مقیاساً للصحیح من العقیدة، و أضحت
[ صفحه 8]
العقائد الإسلامیة برمتها مضطرة الیترسّم فكره و روحه باعتبار أنه فكر الإسلام و روحه.
و إذ كان علی المسیرة الإسلامیة المعاصرة بكل فصائلها أن تستمد مقوماتها الأساسیة من فكر الإسلام و مبادئه، فكیف یمكنها أن تضبط مواقع خطواتها فی مسرح الحیاة، و هی لم تعرف بعدُ قیمة وصیة النبی صلَّی الله علیه و آله؟
إن الجهل بأهمیتها و ضرورتها فی تلك المسیرة، نذیر بالابتعاد الكلی عن الخط الرسالی الواضح الذی أراده النبی صلَّی الله علیه و آله لأمته فی وصیته.
و أمّا منعها أو تجمیدها تمهیداً الیإلغائها من الفكر الدینی و التطبیق الواقعی بحجة فوات أوانها! فإنما هو دعوة إلی إلغاء دور الدین من الواقع الحیاة، أو شلّ حركته و تعطیله من أن یأخذ مداه الرحب فی حركة الواقع، وموقعه الكبیر فی صلب المسیرة الإسلامیة المعاصرة. و علی العكس تكون المحافظة علیها باستمرار وجودها محافظة علی الدین فكراً و شریعة و عقیدة، و إحیاءً للحق، و إعلاناً بالتزامه كمنهجٍٍ فی الحیاة؛ باعتبار كون الوصیة المعبّر الواقعی عن قوة الرسالة فاعلیتها فی رسم معالم الطریق. الأمر الذی یتطلب اعادة النظر فی تقییم تلك المسیرة و تشخیص أخطائها باكتشاف نوع العلاقة القائمة بین تأثیرات العهدین الجاهلی و الإسلامی الأول فی عدم فسحهما المجال أمام وصیة النبی صلَّی الله علیه و آله، لتأخذ دور ها كما ینبغی، و تقف الأمة علی منابع خیرها، و تعرف مطالع نورها فی حاضرها و مستقبلها، و حینئذٍ ستُدرَك قیمة الأسالیب التی استخدمها أهل البیت علیهم السلام و من سار بركبهم من الجیل الطلائعی الأول فی كیفیة المقاومة لألوان التحدّی التی جابهتها وصیة النبی فی میدان الصراع السیاسی بعد وفاة الرسول صلَّی الله علیه و آله.
و كتاب «وصیة النبی صلَّی الله علیه و آله» علی صغر حجمه استطاع أن یضع الوصیة فی مكانها الفسیح من الفكر الدینی، مسلّطاً الضوء علی تاریخها، متتبعاً جذورها وحیثیاتها فی العهد النبوی الشریف، و ما جری مجراها علی لسان النبی صلَّی الله علیه و آله فی تأكید و حصر الأمر بعلیّ علیه السلام دون سواه، مع العنایة فی وسائل إثبات اُفقها السیاسی، و محاولات الالتفاف حولها أو التشكیك فی مضمونها و جدواها، ونحو ذلك مما مرّ علیها و لها، حتی جاء بالحقیقة الكاملة ـ لمن أراد معرفتها ـ من القرآن، والحدیث، و السیرة، و التاریخ، و الأدب. آملین أن یؤدّی دوره المطلوب فی وعی الأمة.
و اللّه الهادی الی سواء السبیل. مركز الرسالة
[ صفحه 9]